فصل: فصل في شرح كون السماء بناء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

.فصل في بيان فضائل السماء وبيان فضائل ما فيها، وهي الشمس والقمر والنجوم:

أما الشمس فتفكر في طلوعها وغروبها، فلولا ذلك لبطل أمر العالم كله، فكيف كان الناس يسعون في معايشهم، ثم المنفعة في طلوع الشمس ظاهرة، ولكن تأمل النفع في غروبها فلولا غروبها لم يكن للناس هدو ولا قرار مع احتياجهم إلى الهدو والقرار لتحصيل الراحة وانبعاث القوة الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء على ما قال تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِرًا} [يونس: 67] وأيضًا فلولا الغروب لكان الحرص يحملهم على المداومة على العمل على ما قال: {وَجَعَلْنَا الليل لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشًا} [النبأ: 10، 11] والثالث: أنه لولا الغروب لكانت الأرض تحمى بشروق الشمس عليها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان، ويهلك ما عليها من نبات على ما قال: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان: 45] فصارت الشمس بحكمة الحق سبحانه وتعالى تطلع في وقت وتغيب في وقت، بمنزلة سراج يدفع لأهل بيت بمقدار حاجتهم ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم هذا كله في طلوع الشمس وغروبها.
أما ارتفاع الشمس وانحطاطها فقد جعله الله تعالى سببًا لإقامة الفصول الأربعة ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد منه مواد الثمار ويلطف الهواء ويكثر السحاب والمطر، ويقوي أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزية في البواطن، وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات وينور الشجر ويهيج الحيوان للسفاد، وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار، وتنحل فضول الأبدان، ويجف وجه الأرض، ويتهيأ للبناء والعمارات، وفي الخريف يظهر اليبس والبرد فتنتقل الأبدان قليلًا قليلًا إلى الشتاء، فإنه إن وقع الانتقال دفعة واحدة هلكت الأبدان وفسدت، وأما حركة الشمس فتأمل في منافعها، فإنها لو كانت واقفة في موضع واحد لاشتدت السخونة في ذلك الموضع واشتد البرد في سائر المواضع، لكنها تطلع في أول النهار من المشرق فتقع على ما يحاذيها من وجه المغرب، ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى الغروب فتشرق على الجوانب الشرقية فلا يبقى موضع مكشوف إلا ويأخذ حظًا من شعاع الشمس، وأيضًا كأن الله تعالى يقول لو وقفت في جانب الشرق والغنى قد رفع بناءه على كوة الفقير، فكان لا يصل النور إلى الفقير، لكنه تعالى يقول إن كان الغني منعه نور الشمس فأنا أدير الفلك وأديرها عليه حتى يأخذ الفقير نصيبه.
وأما منافع ميلها في حركتها عن خط الاستواء، فنقول: لو لم يكن للكواكب حركة في الميل لكان التأثير مخصوصًا ببقعة واحدة فكان سائر الجوانب يخلو عن المنافع الحاصلة منه وكان الذي يقرب منه متشابه الأحوال، وكانت القوة هناك لكيفية واحدة، فإن كانت حارة أفنت الرطوبات وأحالتها كلها إلى النارية ولم تتكون المتولدات فيكون الموضع المحاذي لممر الكواكب على كيفية، وخط ما لا يحاذيه على كيفية أخرى وخط متوسط بينهما على كيفية متوسطة فيكون في موضع شتاء دائم يكون فيه الهواء والعجاجة وفي موضع آخر صيف دائم يوجب الاحتراق، وفي موضع آخر ربيع أو خريف لا يتم فيه النضج ولو لم يكن عودات متتالية؛ وكانت الكواكب تتحرك بطيئًا لكان الميل قليل المنفعة وكان التأثير شديد الأفراط، وكان يعرض قريبًا مما لم يكن ميل، ولو كانت الكواكب أسرع حركة من هذه لما كملت المنافع وما تمت، فأما إذا كان هناك ميل يحفظ الحركة في جهة مدة، ثم تنتقل إلى جهة أخرى بمقدار الحاجة وتبقى في كل جهة برهة من الدهر تم بذلك تأثيره وكثرت منفعته، فسبحان الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقدرة الغير المتناهية.
هذا أما القمر، وهو المسمى بآية الليل: فاعلم أنه سبحانه وتعالى جعل طلوعه وغيبته مصلحة، وجعل طلوعه في وقت مصلحة، وغروبه في وقت آخر مصلحة، أما غروبه ففيه نفع لمن هرب من عدوه فيستره الليل يخفيه فلا يلحقه طالب فينجو، ولولا الظلام لأدركه العدو، وهو المراد من قول المتنبي:
وكم لظلام الليل عندي من يد ** تخبر أن المانوية تكذب

وأما طلوعه ففيه نفع لمن ضل عنه شيء أخفاه الظلام وأظهره القمر.
ومن الحكايات: أن أعرابيًا نام عن جمله ليلًا ففقده، فلما طلع القمر وجده فنظر إلى القمر وقال: إن الله صورك ونورك، وعلى البروج دورك، فإذا شاء نورك، وإذا شاء كورك، فلا أعلم مزيدًا أسأله لك، ولئن أهديت إليّ سرورًا لقد أهدى الله إليك نورًا، ثم أنشأ يقول:
ماذا أقول وقولي فيك ذو قصر ** وقد كفيتني التفصيل والجملا

إن قلت لا زلت مرفوعا فأنت كذا ** أو قلت زانك ربي فهو قد فعلا

ولقد كان في العرب من يذم القمر ويقول: القمر يقرب الأجل، ويفضح السارق، ويدرك الهارب.
ويهتك العاشق، ويبلي الكتان، ويهرم الشبان، وينسى ذكر الأحباب، ويقرب الدين، ويدني الحين.
وكان فيهم أيضًا من يفضل القمر على الشمس من وجوه: أحدها: أن القمر مذكر.
والشمس مؤنث لكن المتنبي طعن فيه بقوله:
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ** ولا التذكير فخر للهلال

وثانيها: أنهم قالوا: القمران، فجعلوا الشمس تابعة للقمر، ومنهم من فضل الشمس على القمر بأن الله تعالى قدمها على القمر في قوله: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]، {والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها} [الشمس: 1 2] إلا أن هذه الحجة منقوضة بقوله: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2] وقال: {لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: 20] وقال: {خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] وقال: {إِنَّ مَعَ العسر يُسْرًا} [الشرح: 6] وقال: {فَمِنْهُمْ ظالم} [فاطر: 32] الآية.
أما النجوم: ففيها منافع.
المنفعة الأولى: كونها رجومًا للشياطين، والثانية: معرفة القبلة بها، والثالثة: أن يهتدي بها المسافر في البر والبحر، قال تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا في ظلمات البر والبحر} [الأنعام: 97] ثم النجوم على ثلاثة أقسام: غاربة لا تطلع كالكواكب الجنوبية، وطالعة لا تغرب كالشمالية، ومنها ما يغرب تارة ويطلع أخرى، وأيضًا منها ثوابت، ومنها سيارات، ومنها شرقية، ومنها غربية والكلام فيها طويل.
أما الذي تدعيه الفلاسفة من معرفة الأجرام والأبعاد.
فدع عنك بحرًا ضل فيه السوابح.. قال تعالى: {عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26، 27] وقال: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 85] وقال: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الغيب} [هود: 31] وقال: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف: 51] فقد عجز الخلق عن معرفة ذواتهم وصفاتهم فكيف يقدرون على معرفة أبعد الأشياء عنهم، والعرب مع بعدهم عن معرفة الحقائق عرفوا ذلك، قال قائلهم:
وأعرف ما في اليوم والأمس قبله ** ولكنني عن علم ما في غد عمي

وقال لبيد:
فوالله ما تدري الضوارب بالحصى ** ولا زاجرات الطير ما الله صانع

.فصل في شرح كون السماء بناء:

قال الجاحظ: إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منورة كالمصابيح والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه، وضروب النبات مهيأة لمنافعه وضروب الحيوانات مصرفة في مصالحه، فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ} فاعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض وكانت كالصدف والدرة المودعة فيه آدم وأولاده، ثم علم الله أصناف حاجاتهم فكأنه قال يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال: {أَنَّاْ صَبَبْنَا الماء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقًّا} [عبس: 25، 26] فانظر يا عبدي أن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة، ولو أني خلقت الأرض من الذهب والفضة هل كان يحصل منها هذه المنافع، ثم إني جعلت هذه الأشياء في هذه الدنيا مع أنها سجن، فكيف الحال في الجنة، فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم؛ لأن الأم تسقيك لونًا واحدًا من اللبن، والأرض تطعمك كذا وكذا لونًا من الأطعمة، ثم قال: {مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55] معناه نردكم إلى هذه الأم، وهذا ليس بوعيد؛ لأن المرء لا يوعد بأمه وذلك لأن مكانك من الأم التي ولدتك أضيق من مكانك من الأرض، ثم إنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى، ولكن الشرط أن تدخل بطن هذه الأم الكبرى، كما كنت في بطن الأم الصغرى؛ لأنك حين كنت في بطن الأم الصغرى ما كانت لك زلة، فضلًا عن أن تكون لك كبيرة، بل كنت مطيعًا لله بحيث دعاك مرة إلى الخروج إلى الدنيا فخرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك، واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الأرض والسماء بين ما بينهما من شبه عقد النكاح بإنزال الماء من السماء على الأرض والإخراج به من بطنها أشباه النسل الحاصل من الحيوان، ومن أنواع الثمار رزقًا لبني آدم ليتفكروا في أنفسهم وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم، ويعرفوا أن شيئًا من هذه الأشياء لا يقدر على تكوينها وتخليقها إلا من كان مخالفًا لها في الذات والصفات، وذلك هو الصانع الحكيم سبحانه وتعالى.
وههنا سؤالات:
السؤال الأول: هل تقولون إن الله تعالى هو الخالق لهذه الثمرات عقيب وصول الماء إليها بمجرى العادة، أو تقولون إن الله تعالى خلق في الماء طبيعة مؤثرة، وفي الأرض طبيعة قابلة، فإذا اجتمعا حصل الأثر من تلك القوة التي خلقها الله تعالى؟ والجواب: لا شك أن على كلا القولين لابد من الصانع الحكيم وأما التفصيل فنقول: لا شك أنه تعالى قادر على خلق هذه الثمار ابتداء من غير هذه الوسائط لأن الثمرة لا معنى لها إلا جسم قام به طعم ولون ورائحة ورطوبة، والجسم قابل لهذه الصفات، وهذه الصفات مقدورة لله تعالى ابتداء لأن المصحح للمقدورية إما الحدوث، أو الإمكان، وإما هما وعلى التقديرات فإنه يلزم أن يكون الله تعالى قادرًا على خلق هذه الأعراض في الجسم ابتداء بدون هذه الوسائط، ومما يؤكد هذا الدليل العقلي من الدلائل النقلية ما ورد الخبر بأنه تعالى يخترع نعيم أهل الجنة للمثابين من غير هذه الوسائط، إلا أنا نقول قدرته على خلقها ابتداء لا تنافي قدرته عليها بواسطة خلق هذه القوى المؤثرة والقابلة في الأجسام، وظاهر قول المتأخرين من المتكلمين إنكار ذلك ولابد فيه من دليل.
السؤال الثاني: لما كان قادرًا على خلق هذه الثمار بدون هذه الوسائط فما الحكمة في خلقها بهذه الوسائط في هذه المدة الطويلة؟ والجواب: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.
ثم ذكروا من الحكم المفصلة وجوهًا: أحدها: أنه تعالى إنما أجرى العادة بأن لا يفعل ذلك إلا على ترتيب وتدريج، لأن المكلفين إذا تحلوا المشقة في الحرث والغرس طلبًا للثمرات وكدوا أنفسهم في ذلك حالًا بعد حال علموا أنهم لما احتاجوا إلى تحمل هذه المشاق لطلب هذه المنافع الدنيوية، فلأن يتحملوا مشاق أقل من المشاق الدنيوية لطلب المنافع الأخروية التي هي أعظم من المنافع الدنيوية كان أولى، وصار هذا كما قلنا أنه تعالى قادر على خلق الشفاء من غير تناول الدواء لكنه أجرى عادته بتوقيفه عليه لأنه إذا تحمل مرارة الأدوية دفعًا لضرر المرض، فلأن يتحمل مشاق التكليف دفعًا لضرر العقاب كان أولى وثانيها: أنه تعالى لو خلقها دفعة من غير هذه الوسائط لحصل العلم الضروري بإسنادها إلى القادر الحكيم، وذلك كالمنافي للتكليف والابتلاء أما لو خلقها بهذه الوسائط فحينئذٍ يفتقر المكلف في إسنادها إلى القادر إلى نظر دقيق، وفكر غامض فيستوجب الثواب، ولهذا قيل: لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب.
وثالثها: أنه ربما كان للملائكة ولأهل الاستبصار عبر في ذلك وأفكار صائبة.
السؤال الثالث: قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} يقتضي نزول المطر من السماء وليس الأمر كذلك فإن الأمطار إنما تتولد من أبخرة ترتفع من الأرض وتتصاعد إلى الطبقة الباردة من الهواء فتجتمع هناك بسبب البرد وتنزل بعد اجتماعها وذلك هو المطر.
والجواب من وجوه: أحدها: أن السماء إنما سميت سماء لسموها فكل ما سماك فهو سماء فإذا نزل من السحاب فقد نزل من السماء وثانيها: أن المحرك لإثارة تلك الأجزاء الرطبة من عمق الأرض الأجزاء الرطبة {أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} وثالثها: أن قول الله هو الصدق وقد أخبر أنه تعالى ينزل المطر من السماء، فإذا علمنا أنه مع ذلك ينزل من السحاب فيجب أن يقال ينزل من السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض.
السؤال الرابع: ما معنى من في قوله: {مِنَ الثمرات} الجواب فيه وجهان:
أحدهما: التبعيض لأن المنكرين أعني ماء ورزقًا يكتنفانه وقد قصد بتنكيرهما معنى البعضية فكأنه قيل وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم.
والثاني: أن يكون للبيان كقولك أنفقت من الدراهم إنفاقًا، فإن قيل فبم انتصب رزقًا؟ قلنا إن كان من للتبعيض كان انتصابه بأنه مفعول له.
وإن كا نت مبينة كان مفعولًا لأخرج.
السؤال الخامس: الثمر المخرج بماء السماء كثير، فلم قيل الثمرات دون الثمر أو الثمار؟
الجواب: تنبيهًا على قلة ثمار الدنيا وإشعارًا بتعظيم أمر الآخرة والله أعلم. اهـ. بتصرف يسير.
قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.

.قال أبو السعود:

{فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا} إما متعلقٌ بالأمر السابق مترتِّبٌ عليه، كأنه قيل: إذا أمرتم بعبادة مَنْ هذا شأنه من التفرد بهذه النعوت الجليلة والأفعال الجميلة فلا تجعلوا له شريكًا، وإنما قيل: أندادًا باعتبار الواقع، لا لأن مدارَ النهي هو الجمعية، وقرئ نِدّا، وإيقاعُ الاسم الجليل موقعَ الضمير لتعيين المعبودِ بالذاتِ إثرَ تعيينه بالصفات، وتعيينِ الحُكمِ بوصف الألوهية التي عليها يدور أمرُ الوحدانية واستحالةُ الشِّرْكة، والإيذانِ باستتباعها لسائر الصفات، وإما معطوفٌ عليه كما في قوله تعالى: {اعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} والفاء للإشعار بعِلّية ما قبلها من الصفات المُجراة عليه تعالى للنهي أو الانتهاء أو لأن مآلَ النهْي هو الأمرُ بتخصيص العبادة به تعالى، المترتبُ على أصلها، كأنه قيل: اعبدوه فخُصُّوها به، والإظهارُ في موضع الإضمار لما مر آنفًا، وقيل: هو نفيٌ منصوبٌ بإضمار أن جوابًا للأمر، ويأباه أن ذلك فيما يكون الأول سببًا للثاني. ولا ريب في أن العبادة لا تكون سببًا للتوحيد، الذي هو أصلُها ومبناها.
وقيل: هو منصوبٌ بلعل نصبَ {فَأَطَّلِعَ} في قوله تعالى: {لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب أسباب السموات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} أي خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه فلا تُشْبِهوه بخلقه، وحيث كان مدارُ هذا النصب تشبيهَ لعل في بُعْد المرجوِّ بليت كان فيه تنبيهٌ على تقصيرهم بجعلهم المرجوِّ القريبَ بمنزلة المتمنى البعيد، وقيل: هو متعلِّق بقوله تعالى: {الذى جَعَلَ} الخ، على تقدير رفعِه على المدح، أي هو الذي خصّكم بهذه الآياتِ العظامِ والدلائل النيِّرة، فلا تتخذوا له شركاءَ، وفيه ما مر من لزوم كون خلقهم وخلقِ أسلافِهم بمعزل من مناطية النهي مع عراقتهما فيها. وقيل: هو خبرٌ للموصول بتأويل مَقولٍ في حقه، وقد عرفت ما فيه مع لزوم المصير إلى مذهب الأخفش في تنزيل الاسم الظاهرِ منزلةَ الضمير كما في قولك: زيدٌ قام أبو عبد الله إذا كان ذلك كنيتَه.
والند المثل المساوي من ندّ ندُودًا إذا نفر، ونادَدْتُه خالفته، خُص بالمخالف المماثل بالذات كما خص المساوي بالمماثل في المقدار، وتسميةَ ما يعبده المشركون من دون الله أندادًا والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله تعالى في صفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله لما أنهم لما تركوا عبادته تعالى إلى عبادتها، وسمَّوْها آلهةً شابهتْ حالُهم حالَ من يعتقد أنها ذواتٌ واجبةُ بالذات، قادرة على أن تدفع عنهم بأسَ الله عز وجل، وتمنحهم ما لم يُرد الله تعالى بهم من خير، فتهكّمٌ بهم، وشُنِّع عليهم أن جعلوا أندادًا لمن يستحيل أن يكون له ندٌّ واحد وفي ذلك قال موحِّد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل:
أربًّا واحدًا أم ألفَ رب ** أدينُ إذا تقسَّمت الأمورُ

تركتُ اللاتَ والعزّى جميعا ** كذلك يفعل الرجلُ البصير

وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} حال من ضمير لا تجعلوا بصرف التقييد إلى ما أفاده النهي من قُبح المنهي عنه ووجوبِ الاجتنابِ عنه، ومفعول تعلمون مطروحٌ بالكلية كأنه قيل: لا تجعلوا ذلك فإنه قبيحٌ واجبُ الاجتناب عنه، والحال أنكم من أهل العلم والمعرفة بدقائق الأمورِ وإصابة الرأي، أو مقدرٌ حسبما يقتضيه المقام، نحو وأنتم تعلمون بطلان ذلك، أو تعلمون أنه لا يماثله شيء، أو تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت، أو تعلمون أنها لا تفعل مثلَ أفعاله كما في قوله تعالى: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَئ} أو غير ذلك.
وحاصلُه تنشيطُ المخاطبين وحثُّهم على الانتهاء عما نُهوا عنه، هذا هو الذي يستدعيه عمومُ الخطاب في النهي بجعل المنهي عنه القدرَ المشتركَ المنتظِمَ لإنشاء الانتهاءِ كما هو المطلوبُ من الكفرة، وللثبات عليه كما هو شأنُ المؤمنين حسبما مر مثلُه في الأمر، وأما صرفُ التقييد إلى نفس النهي فيستدعي تخصيصَ الخطاب بالكفرة لا محالة إذ لا يتسنى ذلك بطريق قصرِ النهي على حالة العلمِ ضرورةَ شمولِ التكليفِ للعالم والجاهلِ المتمكنِ من العلم بل إنما يتأتى بطريق المبالغة في التوبيخ والتقريع، بناءً على أن تعاطيَ القبائحِ من العالمِين بقُبحها أقبحُ وذلك إنما يُتصور في حق الكفرة، فمَنْ صرَفَ التقييدَ إلى نفس النهي مع تعميم الخطاب للمؤمنين أيضًا فقد نأى عن التحقيق.
إن قلت: أليس في تخصيصه بالكفرة في الأمر والنهي خلاصٌ من أمثال ما مر من التكلفات وحسنُ انتظامٍ بين السباقِ والسياق، إذ لا محيدَ في آية التحدي من تجريد الخطابِ، وتخصيصُه بالكفرة لا محالة مع ما فيه من رِباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة حسبما مر في صدر السورة الكريمة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي؟ قلت: بلى إنه وجهٌ سَرِيٌّ، ونهج سوي، لا يضِلُّ من ذهب إليه ولا يزِلُّ من ثبَّت قدمَه عليه، فتأمل. اهـ.